الخميس، 16 مايو 2013

كتاب " حرب الأخوين " الكاتب الانكليزي باتريك سيل حقيقة العلويين والنصيريين

واليكم كتاب " حرب الأخوين " الذي ألفه الكاتب
الانكليزي باتريك سيل وهو عميل للاستخبارات البريطانية وكانت وظيفته تلميع صورة
السفاح حافظ أسد ومن بعده السفاح بشار أسد

وكما حاول لوسيان بيترلان التطبيل والتهليل للنصيريين
والاصرار على رسم صورة لسورية لايمكن تقبلها دون النصيريين والتخويف من
المسلمين


واليكم
الكتاب


بسم الله الرحمن الحيم

حرب الأخوين

في الثاني عشر من تشرين الأول / نوفمبر عام 1983، و بعد
أن أشتغل الأسد في مكتبه في الطابق الثاني بمنزله، شعر بأنه ليس على مايرام. فصعد
إلى الطابق العلوي و أوى إلى فراشه، و لكنه لم ينم جيداً. و في الصباح اتصل بطبيبه
هاتفياً. و بعدما فحصه الطبيب استدعى طبيباً آخر لإبداء رأي ثان. فنصحاه بالمعالجة
الفورية لشكهما في أن العلة في القلب (1).


و نقل الأسد إلى مستشفى الشامي بدمشق
حيث وضع تحت العناية المشددة. و رغم أن المختصين قد اكتشفوا بعض الاضطراب في نبضات
قلبه،

كان يشكو من السكري منذ زمن طويل، و مما جعله يتفاقم هو حبه
للحلويات. و مان في شبابه يشكو صداعاً و توتراً في العين. غير أن هذه الشكايات كانت
أشياء قد تعود على التعايش معها. و الحقيقة أن الطيار الذي كان سليماً ذات يوم قد
أضرت بصحته أعوامٌ من الوجبات غير المنتظمة، و نقص في الهواء الطلق و التريض، و عمل
دؤوب لا يهدأ و لايستكين. و نجم عن حياة الجلوس توسع في أورته أصابه بالدوالي، و قد
أجريت له عملية. و لذا خشي الأطباء أن يحدث التهاب في الأوردة. غير أن السبب
الحقيقي لانهياره كان هو الإرهاق. لقد كان الأسد ببساطة متعباً للغاية. و فجأة
ابتعد عن المسرح الرجل الذي ظل حاكماً سوريا طيلة ثلاثة عشر عاماً.

و
نصحه الأطباء بالراحة التامة، و أعطوه مسكنات قوية ليفرضوها عليه. و شعر الأسد،
الذي نادراً ما تناول أية أقراص منومة، بدوار جعله غير مستقر. و أدى هذا العجز،
مضافاً إلى إغلاق أطبائه الباب حتى في وجه ذوي أعلى المناصب في نظامه، إلى أقصى
درجات القلق و إثارة المخاوف. و أصيب المقربون منه بالذعر لأنهم أصبحوا بلا قائد،
فراحوا يحاولون كسب الوقت فأعلنوا للناس بطريقة ضعيفة غير مقنعة أن الرئيس يعالج من
التهاب الزائدة الدودية. ذلك أن الهيكل الذي كان قد بناه، و الذي كان يعتمد عليه
كلياً، قد تعرض لخطر الأنهيار.


و قد أنهار الأسد في أوج المعمعة متعددة الأطراف في
لبنان. فقبل ذلك بأقل من ثلاثة أسابيع كان جنود البحر الأمريكيون قد قتلوا بالجملة،
و بدا أن الانتقام من سوريا لن يتأخر كثيراً لأنها اعتبرت شريكاً في ذلك الهجوم. و
كانت الطائرات الأميركية تحلق فوق المواقع السورية في جبال لبنان. و كان الأسطول
الأميركي الضخم، بما فيه حاملة الطائرات الهائلة "نيوجرسي"، قد استخدم مدافعه ضد
حلفاء الأسد في محاولة لتحديه بالتحديق فيه وجهاً لوجه. و عندما شرع الأسد يشدد
الضغط على أمين الجميل لإرغامه على إلغاء الأتفاق، بدت الحرب الساخنة مع الولايات
المتحدة شيئاً وارداً، بل و محتملاً جداً. و في ذلك الوقت بالذات و قع يوري
اندروبوف، الزعيم السوفياتي الذي أعطى للأسد أسلحة و ضمانات على نطاق لم يسبق له
مثيل، فريسة مرض ميؤوس من شفائه.


و في 11 / تشرين الثاني - نوفمبر، عاد
وزير الخارجية خدام من موسكو بعد أن توقف فيها ليلة واحدة و معه الخبر الكئيب بأن
اندروبوف على فراش الموت و أن الكرملين ليس في وضع يسمح له باتخاذ قرارات جريئة أو
عاجلة. و هكذا تعرض للتهديد موقف الأسد الرادع ضد إسرائيل. و لا شك في أن قلقه على
اندروبوف قد أسهم في عدم صموده أمام المرض هو الآخر
(2).


و لم تكن أميركا هي العدو الوحيد الذي تصارعه سوريا في ذلك الوقت.
فإسرئيل كانت تشدد غاراتعا الانتقامية على البقاع و على طول طريق بيروت-دمشق عقب
نسف مقر قيادة المخابرات الإسرائيلية في صور في أوائل تشرين الثاني / نوفمبر حيث
قتل تسعة و عشرون شخصاً.

و أدان الرئيس الفرنسي ميتران التدخل السوري في لبنان و
أكد أنه سينتقم لحادث نسف مقر الوحدة الفرنسية بسيارة مفخخة، و الذي وقع في نفس يوم
الهجوم على جنود البحرية الأميركيين.


و في طرابلس كان صدام الإرادات البالغ
العنف و الشراسة بين عرفات و منشقي فتح الذين تدعمهم سوريا قد وصل إلى ذروته. و كان
المنشقون قد اجتاحوا مخيم النهر البارد، معقل عرفات، حيث سقط ضحايا بالمئات. و
لتشديد الحصار أشعلت المدفعية السورية النار في مصافي النفط و المرفأ فسببت أضراراً
تقدر بعشرات الملايين من الدولارات. و بحصر عرفات في مخبئه بطرابلس تعرضت دمشق لضغط
عربي شديد لوقف هذا القتال المخجل بين العرب. غير أن الأسد كانت لديه كراهية لا
تعرف الصفح ضد زعيم المنظمة، و كان مصمماً على قذفه في
البحر.


و في لبنان ككل، كان النظام الإسرائيلي قد تم دحره، و لكن النظام
السوري لم يكن قد فرض هناك بحال من الأحوال. و قد اجتمعت في جنيف حفنة من الشخصيات
اللبنانية القيادية، موارنة، و سنّة، و شيعة، و دروز في "مؤتمر للوفاق الوطني" من
31/10 إلى 8/11/1983 في محاولة يائسة لتجميع شمل بلدهم الممزق مرة أخرى. و كان
الجميع قد اعترفوا بأن سوريا هي سيدة الحلبة، و قرروا مراعاة لها أن يعيدوا التأكيد
على هوية لبنان العربية و أن يجعلوا إنسحاب إسرائيل من الأولويات الوطنية. و لكن -
كما قال خدام للأسد عند عودته من جنيف - كان ديفيد كيمحي (الذي تسميه إسرائيل:
المستر لبنان) يترصد خلف الكواليس و في الأروقة، و كانت القوات اللبنانية، عميلة
إسرائيل، قد رفضت قرارات المؤتمر. و في تلك الأثناء كانت بيروت على أرض الواقع
تحتوي كل شيئ و أي شيئ ما عدا الوفاق و الإنسجام: فقد استمرت بلا هوادة عمليات
الخطف، و المناوشة، و القصف بين شطري بيروت، بين الموارنة و الدروز، و بين الرئيس
الجميل و أعدائه. و مع ذلك فقد كانت سوريا تكسب بلا شك. و كان من المتوقع وصول
الجميل نفسه إلى دمشق في 14 / تشرين الثاني - نوفمبر للإعتراف علناً بأن الإتفاق
الذي وقعه مع إسرائيل في 17 / أيار - مايو بات لاغياً و
باطلاً.


و قد وقع الأسد فريسة المرض في هذه اللحظة، عشية انتصاره الذي قاتل
من أجله بقوة. و هكذا بقي كل شيئ بالميزان. و اضطر خدام و هو مهموم و متكدر إلى
الاتصال هاتفياً بالجميل طالباً منه تأجيل رحلته بسبب التهاب "الزائدة الدودية"
للرئيس السوري. و لكن هذا العذر لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما نبشت الصحف الأجنبية
كون زائدة الأسد قد أزيلت قبل ذلك بعشرين عاماً.


و
أمضى الأسد أكثر من أسبوعين في المشفى قبل أن ينتقل إلى فيللا خاصة في الغوطة -
حزام دمشق الأخضر - لقضاء فترة شهر للنقاهة.

ورغم أن الأطباء لم يستطيعوا تشخيص أي
مرض محدد لديه، فقل ظل يشعر بضعف شديد. و نظراً لأن وقت انهياره قد صادف أوج النضال
ضد إسرائيل و الولايات المتحدة فقد ثارت لدى المسؤولين عن سلانته شكوك في أنه ربما
سقط ضحية هجوم غادر خفيّ.

و هكذا تم خلال فترة نقاهته في الريف تغيير جميع طاقمه
الشخصي، من طباخين و خدم و ممرضات، بل لقد تم تغيير أثاث المنزل و الأشياء
المتواجدة حول الأسد. و كان من المحتوم أن تظل صحته موضوعاً لكثير من الأقاويل و
الشائعات. فقد أشيع مثلاً أنه أصيب بشلل نصفي و بأنه تلقى رصاصة في صدره على يد
قاتل حاول اغتياله. و أدت السرية المعتادة في سوريا إلى تغذية الإشاعات. غير أن
بقاء الأسد بعيداً عن الأنظار جعله يراقب الأصداء و التموجات و يثير البلبلة في
صفوف خصومه. و في الوقت المناسب، و لتهدئة الرأي العام المحلي عرض التلفزيون العربي
السوري فيلماً عن الأسد في أحد الإجتماعات في 27 / تشرين الثاني - نوفمبر، و بعد
ثلاثة أيام عُرضت قصاصة فيلم آخر ظهر فيه الأسد و هو يفتتح جسراً جديداً في
دمشق.


الخوف من مؤامرة أميركية

و أدت هذه اللقطات التي حاولت الإيحاء
بأن كل شيئ مستمر على مايرام إلى اسدال حجاب ليس على صحة الأسد التي كانت لا تزال
غير مستقرة فحسب، بل و على الدمدمات الأولى لصراع داخلي على السلطة (3).

و
لم يُصعق أحد بمرض الأسد كما صُعق أخوه رفعت، السيد الحامي للديار الذي بدا - بعدما
أمضى في المشفى ثلاثة ليال بلا نوم - مرهقاً أكثر من أخيه
نفسه
.

و من سريره أرسل الأسد تعليماته بتشكيل لجنة من ستة أشخاص عهد إليها
بتسيير القضايا اليومية، و قد شملت كلاً من خدام (وزير الخارجية) و الأحمر (الأمين
العام المساعد للقيادة القومية للحزب) و طلاس (وزير الدفاع) و الشهابي (رئيس
الأركان)، و الكسم (رئيس الوزراء) و مشارقة (الأمين المساعد للقيادة القطرية). و
لكن رفعت، الذي كان أقدم من بعضهم، و أقوى من أي منهم، لم يكن من بين أعضاء اللجنة
المذكورة التي كلف الكسم برئاستها رغم امتعاض بعض
أعضائها.




ثم وقعت حادثة ما كان يمكن تصور وقوعها لو كان
الأسد واقفاً على قدميه. فقد خشي أقوى قادة البلد العسكريين أن يكون الأسد على وشك
الموت، و فزعوا من التغييرات المحتملة التي قد تنجم عن غيابه، فاتجهوا إلى رفعت
بحثاً عن قيادة (4)، ربما لأنهم رأوا أنه أفضل من يحمي نظاماً انتعشوا فيه طيلة عقد
من الزمن أو يزيد. و باعتبار أنه شقيق الأسد، فقد كان رمزاً للاستمرارية، ثم أنه
كان يقود أقوى قوة ضاربة، أي أنه كان دعامة النظام. فقد انتصر في الحرب ضد الأخوان
المسلمين، أكبر خطر داخلي كانوا قد واجهوه جميعاً. و قبل كل شيئ كان أبرز أقطاب
الدولة، و لذلك يمكن الاعتماد عليه في ترك المناصب و (الاقطاعيات) الأخرى سليمة
لأصحابها، مثل أجهزة المخابرات، و الفرق المدرعة، و مشاريع الدولة، و أطقم
الصواريخ، و ما شاكل. و كان آخر شيئ يرغب كبار الضباط في رؤيته هو انتقال الخلافة
إلى لجنة الستة من موظفي الحكومة و الحزب التي عينها الأسد. فقد كانوا يرون أن
أعضاء هذه اللجنة ليسوا أكثر من موظفين تنفيذيين موهوبين، و رجال واجهة، و ليسوا
(الأساطين) و (الدعائم المثبة) للنظام كما كان القادة الميدانيون و قادة المخابرات
يرون أنفسهم. و عندما ذعروا من الفراغ الذي وجدوا أنفسهم مهددين في مواجهته، فإنهم
أي (الجنرالات)، قلبوا ترتيبات الأسد رأساً على عقب.


و بناءً على تحريضهم، قام الشهابي و خدام بزيارة رفعت في
منزله في المزة ليخبروه بأن رجلاً في مثل أهميته لا يمكن إبعاده في مثل تلك اللحظات
المتأزمة عن الهيئات أو المجالس الحاكمة للبلاد. و قال رفعت إنه يجب أن يمتثل
لرغبات الرئيس
، و لكنه سرعان ما اقتنع. ثم عقد اجتماع كامل للقيادة القطرية،
بحضور تسعة عشر عضواً و غياب الأسد نفسه، و وزير إعلامه أحمد اسكندر أحمد الذي كان
على فراش الموت بسبب ورم بالمخ. و قررت القيادة أن تجعل من نفسها بديلاً للجنة
الأسد السداسية. و كانت هذه طريقة أنيقة متقنة لجلب رفعت إلى مركز
الأمور.


و كان نجاح هذه
المناورات مرهوناً باستمرار مرض الأسد. و لكن صحته كانت آخذة في التحسن. و عندما
علم بما حدث، و هو في فترة النقاهة، شعر بالسخط الشديد. لأن أي انحرف عن الطاعة
الكاملة الخالية من أي تساؤل كان يثير شكوكه. فاستدعى كبار ضباطه و وبخهم على
الابتعاد عن تنفيذ رغباته الصريحة و بذلك فتحوا الباب لأخطار غير متوقة: أوَلم يروا
أن دفع رفعت إلى المقدمة كان خطة أميركية - سعودية لازاحته عن
الحكم؟


ولكن كيف توصل الأسد إلى هذا الاستنتاج المفاجيء المذهل؟

في تلك
الأسابيع القلقة العصيبة كان الهمّ الأكبر هو الحرب من أجل لبنان. وبينما كان الأسد
قيد المعالجة أهمل متابعة القضايا المحلية، ولكنه أصر علي متابعة الأزمة اللبنانية
بالهاتف ساعة بعد ساعة. وقد لاحظ أن إسحق شامير قد عاد من زيارة لواشنطن في أواخر
تشرين الثاني/نوفمبر 1983 ويده مليئة باتفاقيات تؤذن-حسب كلمات شامير نفسه- (ببدء
مرحلة جديدة من العلاقات الإسرائيلية-الأميركية). فقد تم الاتفاق على اجراء مناورات
مشتركة أميركية - إسرائيلية، وعلى تخزين معدات اميركية في إسرائيل، وعلى رفع الحظر
عن تصدير القنابل العنقودية، وزيادة المعونة العسكرية. وبدا كأنما كان ريغان وشولتز
يرغبان في تعويض إسرائيل عن الاتفاق الذي أجهض. وفي الوقت نفسه أصبحت الاتهامات
الأميركية لسوريا (ولاسيما على لسان كاسبر واينبرغر) أكثر صراحة في الزعم بأن سوريا
قد لعبت دوراً في مذبحة جنود البحرية الأميركيين. وعندما أسقط المدفعيون السوريون
طائرتين اميركيتين في4 / كانون الأول- ديسمبر 1983 وتم أسر طيار أميركي، كان الأسد
متأكداً أن الولايات المتحدة ستسعي لمعاقبته.
الأخ
الأصغر

احتفظت العلاقة بين الأسد وأخيه رفعت بشيء من النمط الذي كان
قائما في طفولتهما عندما كان الأخ الأكبر- عبر فجوة السنوات السبع التي تفصل بين
عمريهما - يرغم أخاه المتمرد الأصغر على احترامه. وكان في رفعت شبه بأخيه يلفت
النظر، فله نفس البنية الثقيلة، ونفس التعبير الملغز الذي لا يخلو أحياناً من
الدعابة، غير أن شخصيتهما كانتا مختلفتين. فقد كان الأسد جاداً أو متروياً، أما
رفعت فكان ميالاً للمتع ومندفعاً، ومع ذلك فله ذكاء لماح. وكان يضحك أكثر من أخيه
بكثير وكان حسب تقاليد شيوخ العرب كريماً إلى حد الافراط. وبينما كان الأسد الملتصق
بكرسيه مشغولاً استغرقته شؤون الدولة كلياً، ولا سيما الشئون الخارجية، انهمك رفعت
في بناء وتنظيم أتباع مخلصين له في سرايا الدفاع وفي البلد. وكان يمارس سلطات
مطلقة، وقد أثرى هو و أصدقاؤه الحميمون، كما كان يذهب في مهمات سرية إلى الأصدقاء
والأعداء على السواء، ويشترك في مشاريع أخرى يحيط بها الظلام والضباب في عالم
السياسة والتجارة في البلاد العربية.
وعلى عكس كثير
من الإمَّعات في بطانة الأسد، كان رفعت يستطيع الادعاء بحق بأنه شاطر أخاه السلطة.
وخلال إنشقاق الحزب في عام 1966 كانت قوة الأمن التي يترأسها رفعت هي التي قبضت علي
أمين الحافظ ومحمد عمران. وفي عام 1969 دَحَرَ مديرَ مخابراتِ صلاح جديد، عبدَ
الكريم الجندي. فمهد بذلك الطريق لاستيلاء الأسد على السلطة و قد ساعد على سحق
التمرد الاسلامي مابين 1980 و 1982، وربما أنقذ بذلك نظام حكم
أخيه.
كانت هذه هي مؤهلاته وأوراق اعتماده. غير أنه بعد أن انتصر علي
اولئك الأعداء الكثيرين شرع يملي قوانينه وتعليماته الخاصة به. وكانت له ذراع طويلة
تمتد إلى مصالح في كثير من أنحاء البلد، وعبر الجبال إلي لبنان. وأصبحت سراياه
جيشاً خاصاً سريع الحركة قوامه خمسة وخمسون ألف رجل. وله دروعه الخاصة به، وكذلك
مدفعيته، ودفاعه الجوي، وأسطوله من المروحيات الناقلة للجنود. وبذلك كانت سرايا
الدفاع ندّاً لأية وحدة سورية. وأثارت رواتب رجالها وامتيازاتهم حَسَدَ بقية
الجيش
.

وكان رفعت يشارك صديقه وراعيه الأمير السعودي عبد الله في تذوقه
لمتع الصيد، والنساء، ولعب دور الزعيم الكبير. وكانت زيارات الأمير عبد الله لدمشق
مناسبات تقام فيها حفلات تستغرق الليل بطوله وتلعب فيها دور النجمة راقصة هز البطن
الأميركية تامارا في أوائل عام1984. ولعل تأثير الأمير عبد الله جعله يفكر في سلالة
العائلة، فتزوج أربع نساء، وأنجب سبعة عشر ولداً. وكان يغرس الولاء له والإعجاب به
في نفوس أتباعه. أما في خارج دائرته المسحورة المبهورة به فقد كان يثير الغضب
والخوف على نطاق واسع. وكان ذوقه في (تحديث) البلاد يثير أحياناً مشاعر خطيرة من
الغضب والمهانة، كما حدث في عام 1983 عندما راحت المظليات التابعات له يخلعن
المناديل عن وجوه النساء ورؤوسهن في الشوارع مما أرغم الأسد على استنكار هذا التطرف
والتبرؤ منه علناً.

وغالباً ما كان الأسد يستخدم رفعت. ولكن بما أنه لم يكن
لديه كبير ثقة في حسن تقديره فمن غير المحتمل أن يكون قد فكر فيه كخلف له. كرس
الأسد حياته للدفاع عن خط سياسي معين يتعلق بكيفية إدارة الصراع مع إسرائيل. ولم
يكن ليثق بترك هذا الإرث وديعة بين يدي أخيه. وكان يكره طريقة حياة أخيه الباذخة
(وكذلك كانت تكرهها زوجة الأسد، المتحفظة، والمؤثرة) ويكره نقطة الضعف فيه تجاه
أميركا، حيث كان رفعت قد اشترى بيتاً بمليون دولار، وكان لا يثق بكثير من اصدقاء
رفعت الأجانب، بما في ذلك صداقاته مع ياسر عرفات ومع الحسن ملك المغرب، الذي كانت
اتصالاته السرية بإسرائيل قد زكمت فضائحها الأنوف.

والخلاصة أن الأسد، في
اعتقاده بأنه مهدد من قبل أعدائه الغربيين، ومن قبل إسرائيل والدول العربية
المعتدلة، بدأ يري في رفعت شرخاً في درعه.
فالأخ الذي كان
ذات مرة مفيداً، ثم ضرورياً، ثم مصدر حرج، قد أصبح الآن
خطراً.
ومن الإنصاف القول بأن من غير المحتمل أن
يكون رفعت قد تطلع جدياً للحكم مكان أخيه، ومن الناحية النفسية فإنه كان يتوق بدلاً
من ذلك إلى اعتراف أخيه بأهميته، وهذا شيء كان يشعر بأن الأسد قد أنكره عليه منذ
أيام طفولته.
وكان رفعت يرغب طبعاً في أن يعيش حياة الثراء والوفرة
الباذخة بدون عقبة أو عائق، كما يليق بأحد أعضاء أسرة حاكمة. ولكنه أساساً كان يريد
أن يقبله الأسد كشريك ويطلق يده في التصرف على الجبهة الداخلية. ولكن عندما مرض
الأسد في تشرين الثاني / نوفمبر، وتجمع كبار الضباط والقيادة الحزبية خلف رفعت،
أساء الأخير فهم هذه الإشارة واعتبرها تعني ولاءً له والتزاماً كلياً بقيادته.

وبما أنه كان ميالاًللتزعم والسيادة بطبيعته فقد بدأ يتصرف بكل التوكيد والإصرار
على إثبات زعامته كوريث شرعي
. فبدأ يضغط من أجل إستقالة رئيس الوزراء وتشكيل
حكومة جديدة. وفجأة ظهرت في كل مكان من العاصمة صور تظهره في أوضاع قيادية آمرة وقد
ارتدي زيّ المظليين.
ولكنه سرعان ما أفاق من هذا الوهم. فلم يكد الأسد يظهر
علامات الشفاء من مرضه حتى تلاشى التأييد الذي كان قد تجمع حول رفعت. فالجنرالات،
الذين كانو في توجهاتهم رهن إشارة الأسد، توقفوا عن الاعتقاد بأن رفعت قادر على
حماية مصالحهم، وشرعوا يرون فيه بدلاً من ذلك تهديداً للبلد ولأنفسهم. وإذْ شكّوا
في أنه كان يخطط فعلاً ليحل محل أخيه ويتسلم السلطة، فقد بدأوا يضعون في طريقه
العراقيل.

وكان عليهم أن يقوموا بذلك سراً وبتحفظ لأن رفعت كان لديه
جيش حقيقي. فألويته الأربعة المتفوقة المنتقاة (ثلاثة ألوية مدرعة، و لواء مؤلل)
كانت كلها على بعد خمسة أميال فقط من دمشق، تسيطر على مشارفها بالدبابات والمدفعية،
بينما كانت قوات الجنرالات الآخرين بعيدة عن ذلك في الخارج. فلم يكن التحدي المباشر
وارداً أو ممكناً. ولعله كان هناك سب آخر للحذر، لأن الجنرالات لم يكونوا متأكدين
من مدى عمق واستمرار المرارة بين الأسد ورفعت: أكان هذا شجاراً عائلياً سوف يتلاشى،
ويترك أي شخص ينحاز إلي أي من الجانبين مكشوفاً؟؟ وهل كان القائد يمتحن ولاء
ضباطه؟



وكان من المؤشرات المبكرة
على جدّية الأسد قيامه بتأديب واحد آخر من إخوته، وهو جميل، الذي كان معروفاً بأنه
قريب من رفعت، وكان في السن يتوسط بين حافظ ورفعت. وقد أصبح السيد المطاع في
اللاذقية. وكان بليغاً، وطموحاً، وذا ذهن يتركز تفكيره في السياسة. وقد تخرج
محامياً ولكنه لم يمارس المحاماة. وباعتباره شقيق الرئيس، فقد انتخب عضواً في مجلس
الشعب بفارق كبير في الأصوات بالمقارنة مع مرشحين آخرين. وكان من أدوات قوته جمعية
الإمام علي المرتضى التي تأسست عان 1981، كتجمع سياسي خلف واجهة دينية. ورغم أنها
لم تكن حركة متينة التركيب إلا أن جميلاً ربما قصد بها أن تكون منافسة لحزب البعث
المحلي، ولا شك أنها قد أمدته بشبكة تحت رعايته امتدت إلي ماهو أبعد من المدينة.
فكانت عشرات الباصات تنقل مؤيديه إلي اللاذقية من أماكن تصل في بعدها إلى الجزيرة،
فكانت تلك الحافلات تصطف أمام بيته الكبير وحديقته التي كان يحتفظ فيها باصطبل
للخيول العربية الجميلة التي كانت أساساً هدايا من شيوخ القبائل. فكان ينحر الخراف
لضيوفه ويلقي كلمات وخطباً رنانة. وفي منتصف كانون الأول / ديسمبر 1983 وعندما شفي
الأسد من مرضه أغلقت جمعية المرتضي بأوامر من دمشق وكان ذلك مؤشراً على أن الرئيس
كان حاكماً في عائلته.
إحتواء رفعت
وقعت
مهمة إحتواء رفعت على عاتق الجنرالات. وكان معظمهم من عوائل علوية فلاحية، وقد
وضعهم الأسد - وأبقاهم سنوات - في مواقع ذات نفوذ شخصي كبير. وكان الأسد يحب
الاستمرارية وكان من عادته أن يبقي الرجل في المنصب مادام راضياً عن أدائه. وفي
قضايا الأمن والمخابرات، التي هي الجانب الخفي من النظام كان أكثر أتباعه تمتعاً
بثقته هم علي دوبا مدير المخابرات العسكرية، ومحمد الخولي، مدير مخابرات القوة
الجوية، وفؤاد عبسي مدير المخابرات العامة المدني الذي كان نائبه القوي المسئول عن
الأمن هو محمد ناصيف. ورغم تسميات مناصبهم فإنه لم تكن هناك حدود واضحة بين هذه
الأجهزة فقد كانت ثلاثتها مسؤولة أمام الأسد مباشرة.

كان علي دوبا رجلاً
طويلاً فاتح اللون من قرية قرفيص يشارك الأسد في مزاجه الدعابي الساخر، وعزوفه عن
الاختلاط الاجتماعي وحبه للأدب، وتكتمه المتحفظ، ومزيج القسوة والعاطفة في
طبعه.

وكان محمد الخولي أكثر حباً للمسرات من علي دوبا، وأكثر ظهورأ في
المجتمع، بينما كان محمد ناصيف متكتماً أكثر من الجميع إلي درجة أنه كان يعيش في
مكتبه، وكان واحدأ من القليلين جداً من الناس المسموح لهم بالمبادرة إلي التحدث مع
الرئيس الأسد هاتفياً في أي وقت. فبالإضافة إلي ترؤسه لما كان في واقع الأمر
بوليساً سياسياً، كان واحداً من أهم مستشاري الأسد في شؤون الشيعة سواء في لبنان أو
في إيران. وكان مقرباً من موسى الصدر والقادة الثوريين الإيرانيين مثل قطب زاده،
والطباطبائي. وكان غالباً مايسافر من دمشق إلي بون وسويسرا اللتين كانتا قطبي
الشبكات الإيرانية في الغرب. كان هؤلاء هم الدعائم الخفية الثلاث للنظام يقابلهم
الثلاثي الذي يقف إلي جانب الرئيس في العلن والمؤلف من وزير الخارجية خدّام،
ووزيرالدفاع طلاس ووزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد.

ومن بين الجنرالات الذين
تحت إمرتهم وحدات هامة كان المنافس الرئيسي لرفعت هو علي حيدر، قائد القوات الخاصة،
وهي تشكيل منتقى من النخبة من قوات المغاوير، تعداد رجاله يتراوح بين عشرة آلاف
وخمسة عشر ألفاً، وقد لعبت هذه القوات، مثل سرايا الدفاع دوراً بارزاً في إخماد
التمرد الإسلامي، وقاتلت في عام 1982 ضد إسرائيل في حرب لبنان. وكان حيدر من قرية
حلة عارة، وهي من أعلي الأماكن في جبال العلويين، على مسيرة ساعتين على القدمين من
الساحل. وكان مثل الأسد قد انضم إلى حزب البعث قبل أن يدخل الكلية الحربية. وكان من
بين منافسي رفعت الآخرين عدنان مخلوف، وهو ابن عم زوجة الأسد، وتحت إمرته عشرة آلاف
رجل من الحرس الجمهوري... كانوا مسؤولين عن الأمن حول القصر الجمهوري في حيّ
المالكي السكني الذي كان يعيش فيه علية القوم. وفي مركز مدينة دمشق
ككل.

وكان مخلوف قد خدم في الأصل في سرايا دفاع رفعت، ولكنه بعد مشاجرة أعطي
إمرة الحرس الجمهوري بناء على اقتراح من قريبه محمد مخلوف شقيق زوجة الأسد. وكان
هناك منافس آخر هو ابن عم الرئيس، عدنان الأسد، الذي كان يرأس قوة أمنية أصغر، هي
سرايا الصراع.

وبالإضافة إلى ذلك كان هناك أربعة من الجنرالات العسكريين
النظاميين يتمتعون بثقة الأسد هو شفيق فياض وإبراهيم صافي قائدا الفرقتين المدرعتين
الثالثة والأولي، وعلي صالح آمر أطقم الصواريخ، وعلي أصلان مدير العمليات ونائب
رئيس الأركان. وكان فياض رجلاَ خشناَ من قرية عين العروس، قرب القرداحة، بينما بني
صافي نفسه من أصول متواضعة كابن مزارع بالشراكة. أما أصلان فكان يعتبر لدى كثيرين
رجلاً رصيناً وواحدً من أقدر أعضاء هيئة الضباط، وله سجل متميز في حرب عام 1973 وما
تلاها من توسع دراماتيكي كبير في القوات المسلحة. كان هؤلاء هم الجنرالات الذين
تجمعوا أول الأمر حول رفعت، ثم انقلبوا ضده، والذين بدأوا في مطلع عام 1984 يناورون
لإيقافه عن حد.
وقبيل نهاية كانون الأول / ديسمبر عام 1983 شعر الأسد بأنه تحسّن
بما فيه الكفاية كي يبدأ برؤية ضيوف أجانب مرة أخري. وعندما قابله صحفيان فرنسيان
من مجلة لوبوان الأسبوعية وهو لا يزال يستجم في الغوطة ذكرا في تقريرهما أنه قال: (
لا أزال أشعر بالشباب ولكن جسمي وقلبي لا يسمحان لي بأن أبقى شاباً بقدر ما أحب )
وهي عبارة أمسك بها البعض وفسروها على أنها تعني أنه قد عانى من نوبة قلبية. وفي
اوائل كانون الثاني/ يناير1984 عاد إلى دمشق، وسلّم الطيار الأميركي الملازم
غودمان، إلى السناتور جيسي جاكسون، واستقبل وزير خارجية بريطانيا السير جفري هاو،
وتجادل مع المبعوث الأميركي دونالد رامسفيلد في جوٍّ كانت خلفيته تدوي بأصوات قنابل
الأسطول السادس.
وفي أذهان هؤلاء الزوار جميعاً كان السؤال: أهذا رجل مريض
حقاً؟


عند هذه النقطة من القصة، تزايدت شكوك الأسد قوة، حول وجود
مؤامرة اجنبية. كان يخشى ان يستغل اعداءه صحته المعتلة، والانشقاق في النظام الذي
كانت السفارات انذاك قد بدأت ترتفع تقاريرها عنه.
ولقد
تشككت اجهزة مخابراته في ان الملك الحسن ملك المغرب والامير السعودي عبد الله،
يحاولان بمساندة واشنطن سرا، استغلال الانقسامات الداخلية في سوريا للقيام بانقلاب
يأتي في توقيته مع استعراض للقوة يقوم به الاسطول
الامريكي.
وصدرت الاوامر لعلي حيدر وشفيق فياض
بتحريك القوات والدبابات الى العاصمة.

وفي 23 شباط / فبراير، عندما طار
الامير الى دمشق ليلقى ترحيبا من جماعة رفعت، يفوق الترحيب الرسمي للكسم رئيس
الوزراء، امر الاسد الشهابي، رئيس الاركان، ان يقوم بتسريح العقيد سليم بركات، مدير
امن رفعت، وكان الاسد يريد ان يتم خروجه في نصف ساعة. وناشد بركات رفعت أن يحميه،
وتحدث رفعت مع الشهابي هاتفياً ليطلب مهلة قدرها 48 ساعة ولكن الشهابي لم يستطع
إلاّ أن يقول بأن أوامر الرئيس كانت واضحة تماماً.

ورفض بركات التخلي عن
منصبه و هنا سارع علي دوبا الى ثكنة بركات فاقتحمها بمفرده ودونما سلاح، وانقضّ على
بركات وجرده من مسدسه الذي كان يلوح به، ثم صفعه على وجهه واقتاده بعيداً. وبعد بضع
ساعات تمكن رفعت من الوصول إلى الأسد على الهاتف، فسأله:

- ماذا فعلتم
(بزلمتي) بركات؟

فرد الأسد باقتضاب: أعتقد اننا قد أعدمناه .

-
ولماذا تفعلون ذلك؟

- لقد أمرت بنقله، ولكنه رفض أن يذهب.

وبعد أيام
عثر رفعت على بركات في السجن، فأمّن إطلاق سراحه ودبر له وظيفة
أسلم.

المواجهة

وجرت
عدة محاولات لنزع فتيل الأزمة من خلال المفاوضات. وأرسل رفعت أخاه جميلاَ ليشفع له
عند الأسد. ولكن جواب الرئيس الذي لم يغفر كان: (أنا أخوكم الأكبر الذي أنتم مدينون
له بالطاعة. لا تنسوا أنني أنا الذي صنعتكم جميعاً) واستمر الأسد يقصر الحبل لرفعت
ويضيق عليه، بينما راح الأخير، وقد شعر بفزع أجفل منه جدياً، يسعى لحماية ماتبقى له
من حرية.

وفي 27/شباط- فبراير 1984 بَدَتْ سوريا وكأنها على شفير حمام دموي،
بينما الفريقان يواجه كل منهما الآخر، والمدافع مستعدة. وفي النقاط الاستراتيجية في
العاصمة كانت قوات علي حيدر الخاصة بقبعاتها الحمراء الداكنة تواجه سرايا دفاع رفعت
بقبعاتها الملونة بلون القرفة، بينما قام الحرس الذي يقوده عدنان مخلوف باستعراض
للقوة في الشوارع الظليلة حول القصر. وفي الليل سُمِعَ صوت رصاص متفرق، ولكن لم
يحدث صدام حاسم بالسلاح.
وكانت المفارقة أن هذا الاضطراب الخطر في الداخل قد
تزامن مع اكتمال النصر في لبنان: ففي 29 شباط / فبراير وصل الرئيس أمين الجميل
أخيراً إلى دمشق ليعلن قرار حكومته بإلغاء إتفاق 17 أيار / مايو الإسرائيلي -
اللبناني. وفي تلك الليلة نفسها، ليلة 29 شباط / فبراير - 1 آذار - مارس عقدت
القيادة القطرية جلسة طارئة لايجاد مخرج من الأزمة الداخلية. وتم التعبير عن الحل
المتوصَّل إليه بتعيين ثلاثة نواب للرئيس الجمهورية بموجب مرسوم جمهوري صدر في 11
آذار / مارس 1984. وعلى رأس القائمة كان خدام، عدوّ رفعت الذي ركز عليه الجنرالات،
يتلوه رفعت نفسه، وقد سُمِّيَ في المرسوم بلا رتبة ولا لقب سوى ( الدكتور) ( وذلك
إشارة إلى الدكتوراه التي منحته إياها جامعة موسكو على أطروحة عن الصراع الطبقي في
سوريا ويعتقد أنها من تأليف أحمد داود، العلوي الذي يجيد اللغة الروسية). وكان
النائب الثالث لرئيس الجمهورية هو زهير مشارقة، مساعد الأسد في القيادة
القطرية.

وكان ترفيع رفعت إلى منصب نائب الرئيس هو في الواقع تكسير رتبة،
لأن واجباته تُركت بلا تحديد، لتعتمد على رضا الرئيس وعطفه. ونقلت إمرة سرايا
الدفاع منه بموجب مرسوم جمهوري آخر إلى العقيد محمد غانم. ولم يستطع رفعت أن ينازع
إزاحته من هذه الوظيفة، ولكنه جمع ضباطه وطلب منهم انتخاب قائد جديد، فاختاروا زوج
ابنته، معين ناصف. أما غانم، السيء الحظ الذي وقع بين أوامر الأسد، و أوامر رفعت
المضادة، فقد تنازل.

وكان الكرملين (الذي برز فيه قسطنطين تشيرنينكو زعيماً
بعد وفاة آندروبوف في 10/ شباط- فبراير 1984) يراقب التطورات في سوريا بانتباه وفزع
وبكثير من الحيرة. أكان صديقهم الأسد قد وقع في متاعب حقيقية بعد أن أجبر الأسطول
الأميركي على الرحيل مباشرة؟

وفي غمرة حرصهم على استباق أي تغيير عنيف قد
يغامر بتضييع المكاسب التي تم الحصول عليها بكل مشقة في لبنان، أرسل السوفيات حيدر
علييف، عضو المكتب السياسي ونائب رئيس الوزراء، إلى دمشق ليتعرف مباشرة على ماكان
يجري هناك. فوصل في 10 آذار / مارس يحمل رسالة حارة من تشيرنينكو (5)، وقابل جميع
الشخصيات الرئيسية، الأسد، ورفعت، وخدام، والآخرين.

ولكن مهما كان دور
الوساطة الذي قد يكون علييف لعبه، فإن التسوية المعلنة في 11 آذار / مارس لم تعمر
طويلاً: إذ أن الأسد كان مصمماً على تجريد رفعت من القدرة على إغراق السفينة بينما
كان رفعت بدوره مصمماً على ان لا يتصاغر إلى حد الضآلة. وهكذا استمر الضغط الذي بدأ
عليه في الأسابيع الأخيرة من عام 1983 إلى آذار/ مارس عام 1984، حيث تم نقل واعتقال
العديدين من أنصاره الموالين له، بل و مات بعضهم.

وبدأ رفعت يشعر بأنه هو
نفسه في خطر عندما نقلت إليه حكاية كان الأسد قد رواها في اجتماع مع ضباطه، ومؤداها
أن الألمان في الحرب العالمية الثانية قد أسروا ابن ستالين، الذي كان ملازماً شاباً
في الجيش الأحمر، واقترحوا مبادلته بجنرال ألماني أسير عند الروس، وهددوا بقتل ابن
ستالين إن لم يوافق على الصفقة. فأجاب ستالين بتجهم: ( فليقتلوه )، ثم بكى. وكان
تعليق رفعت القارص: ( إن دموع أخي عزيزة علي، ولا أريده أن يذرفها بسببي). وبدت له
قصة ستالين المشؤومة وكأنها مطالبة بحياته.

وفي الثلاثين من آذار- مارس لم
يعد رفعت يستطيع أن يتحمل التوتر.
فمع استمرار انشداد الأنشوطة عى عنقه، وربما
بتحريض من أتباعه المتملقين الأذلاء وأصدقائه الأجانب، أمر رفعت سرايا دفاعه
بالتحرك بقوة إلى دمشق والاستيلاء على السلطة. فتحركت دباباته إلى داخل العاصمة
تماماً وتفوقت مدافعها على وحدات منافسيه. واتخذت سرية دبابات ت 72 مواقعها عند
دوار كفر سوسة خارج مبنى قيادة المخابرات العامة على طريق المطار حيث كان
باستطاعتها أن تقصف المدينة. واحتلت دروع أخرى الحدائق الكائنة بين فندق الشراتون،
وقصر الضيافة الجديد، حيث تم زرع الألغام أيضاً. وطوقت فرقة مشاه محمولة مؤللة فندق
المريديان والمجمع الذي يحتوي على مكاتب القيادة القطرية. وفي مواجهة استعراض القوة
هذا حشدت بسرعة دبابات شفيق فياض، وانتشرت عى طول النهر في معرض دمشق الدولي قواتُ
المغاوير الخاصة التابعة لعلي حيدر. وأخرج المدنيون من بيوتهم الواقعة في مناطق
الاقتتال المحتملة. وبدا الأمر كأنه إيذان بحرب أهلية. وتجرأ الملحقون العسكريون
الأجانب على الصعود إلى سطوح المباني بحذر ومعهم المناظير المقربة، ثم بعثوا
بتقارير تقول إن اطلاق النار قد يبدأ في أية لحظة.
وراقب الدبلوماسيون هذه
الدراما وهي تتوالى فصولاً، وقد حيرهم بطء الأسد الظاهر في الردّ. فقد بدا سلبياً
يكاد يكون جامداً في مواجهة تحدي أخيه. فلو تضارب الجانبان في العاصمة لكان الدمار
عظيماً جداً، ولتشوهت صورة النظام إلى حدّ لا يمكن إصلاحه، هذا إن بقي النظام
أصلاً. وبدت كل منجزات الأسد في ثلاثة عشر عاماً من الجهود، في الميزان معرضة
للخطر، وبدت معركة لبنان وقد خُسِرَتْ بعد الاقتراب الشديد من كسبها. ومع ذلك فإن
الأسد لم يتحرك.

كان الأسد يراهن على قدرته في السيطرة على أخيه حتى في
النزاع الأخير، وقد اختار أن لا يكشف أوراقه. ومثلما كان الحال عندما بدأ الأسد
يتهيأ للهجوم المعاكس في لبنان، ربما أراد الأسد أن يستدرج أعداءه إلى أن يشعروا
بالثقة في أنفسهم. لأن هذه لم تكن مشكلة تعثر بها وهو غافل. وقد أظهرت النتيجة أن
قدرته على التحكم بالأحداث لم تضعف ولم تتضرر. فخلال أسابيع من مناورات القط
والفأر، مَدّ لرفعت عمداً حبلاً يكفيه لشنق نفسه قبل أن يضطره إلى الخروج للتحريض
على الفتنة والعصيان علناً. ولا شك في أنه قد فعل ذلك ليعطي نفسه مبرراً كافياً
وافياً لإزاحة رفعت بشكل كليّ. ولم ينس الأسد أن يتخذ إجراءات وقائية عائلية. ففي
اليوم الذي سبق زحف رفعت إلى دمشق، رتب الأسد عملية جلب أمه ( التي كانت في
الثمانينات من عمرها ) بالطائرة من القرداحة لتبقى في منزل رفعت. كان يعرف أنها لا
تزال تمارس تأثيراً قاهراً على طفلها الأصغر. وبالمقارنة مع لاعب في مثل ذكاء
الأسد، كان رفعت ساذجاً في ميدان السياسة. وهكذا أصبح المسرح جاهزاً لِصدام
الإرادات.
ومع انقسام دمشق بين معسكرين يبدوان على حافة الحرب لبس الأسد زيه
العسكري الكامل، واتجه بالسيارة مع ابنه باسل فقط، بدون حرس ولا مرافقين، عبر
الشوارع الفارغة الموحشة إلى مواقع أخيه المحصنة جيداً في ضاحية المزة السكنية حيث
يقع منزل رفعت ومقر قيادة سرايا الدفاع. وكان رفعت قد وضع دبابات في البساتين
المجاورة وعلى طول الطريق الرئيسي، ونصب مدفعية على جبل قاسيون المطلّ على المدينة.
وفي الطريق لتحدي هذه القوة المركزة توقف الأسد عند دوار كفر سوسة المليء بدبابات
رفعت وأمر الضابط المسؤول بالعودة إلى ثكنته.
وفي منزل رفعت في المزة وقف
الأخوان آخر الأمر وجهاً لوجه فسأل الأسد: (( أتريد أن تقلب النظام؟ هاأنذا. أنا
النظام )) ودار بينهما طيلة ساعة جدال عاصف. ولكن الأسد، في دوره كأخ أكبر، ومع
وجود والدته في البيت، لم يكن ليفشل في كسب النزاع. فاختار رفعت أن يقبل تعهد الأسد
بأن مصالحه وأرصدته سوف تُحْتَرَمَ. وأذعن لأخيه كما كان يفعل غالباً منذ أيام
شبابه. ونقل أصدقاء رفعت فيما بعد أنه قال إن قراره بترك القتال كان أعظم غلطة
ارتكبها في حياته.
ولم يكن للصراع أي بعد آخر. وتدخل السوفيات إلى جانب الأسد،
فألقوا بثقلهم خلفه. ولقد كان رفعت رجلاً شجاعاً وجريئاً، ولكنه كان أيضاً عاطفياً
بعمق. فهو ببساطة لم يستطع أن يقسر نفسه على إعلان الحرب على أخ يحترمه ويعجب به
ويتحرق إلى كسب رضاه، مهما كان عمق غضبه منه.
وبعد المواجهة، طاف الأسد على
وحدات رفعت المنتشرة في منطقة المزة، وأمرها بالإنصراف. وفي غضون يوم أو يومين بعد
ذلك تنفس الناس الصعداء بارتياح عميق وهم يرون اختفاء الدبابات والرجال المسلحين من
شوارع العاصمة. كانت سلطة الأسد التي لا تُنَازَع قد استعيدت
بوضوح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق